فصل: (سورة فصلت: آية 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة فصلت: آية 36]:

{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} النزغ والنسغ بمعنى، وهو شبه النخس. والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي. وجعل النزغ نازغا، كما قيل: جد جدّه. أو أريد: وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. أو لتسويله. والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه، وامض على شأنك ولا تطعه.

.[سورة فصلت: الآيات 37- 38]:

{وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)} الضمير في {خَلَقَهُنَّ} لليل والنهار والشمس والقمر، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث. يقال: الأقلام بريتها وبريتهنّ: أو لما قال {وَمِنْ آياتِهِ} كن في معنى الآيات، فقيل:
خلقهنّ. فإن قلت. أين موضع السجدة؟ قلت: عند الشافعي رحمه اللّه تعالى {تَعْبُدُونَ} وهي رواية مسروق عن عبد اللّه لذكر لفظ السجدة قبلها. وعند أبى حنيفة رحمه اللّه: يسأمون، لأنها تمام المعنى، وهي عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب: لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود للّه، فنهوا عن هذه الواسطة، وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه اللّه تعالى خالصا، إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة، فدعهم وشأنهم فإنّ اللّه عز سلطانه لا يعدم عابدا ولا ساجدا بالإخلاص، وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد، وقوله: {عِنْدَ رَبِّكَ} عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة. وقرئ: {لا يسأمون} بكسر الياء.

.[سورة فصلت: آية 39]:

{وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.
الخشوع: التذلل والتقاصر، فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً} وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربق وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات كأنها بمنزلة المختال في زيه، وهي قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة. وقرئ: {وربأت} أي ارتفعت لأن النبت إذا همّ أن يظهر: ارتفعت له الأرض.

.[سورة فصلت: آية 40]:

{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} يقال: ألحد الحافر ولحد، إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شق، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة. وقرئ: {يلحدون} و{يلحدون} على اللغتين.
وقوله: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا} وعيد لهم على التحريف.

.[سورة فصلت: الآيات 41- 42]:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} فإن قلت: بم اتصل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ}؟ قلت: هو بدل من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا} والذكر: القرآن، لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ} أي منيع محمى بحماية اللّه تعالى.
{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} مثل كأن الباطل لا يتطرّق إليه ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه ويتعلق به. فإن قلت: أما طعن فيه الطاعنون، وتأوّله المبطلون؟ قلت: بلى، ولكن اللّه قد تقدّم في حمايته عن تعلق الباطل به: بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا، ولا قول مبطل إلا مضمحلا. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.

.[سورة فصلت: آية 43]:

{ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)} ما يقال لك أي: ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} ورحمة لأنبيائه {وَذُو عِقابٍ} لأعدائهم. ويجوز أن يكون: ما يقول لك اللّه إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول: هو قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ} فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، والغرض: تخويف العصاة.

.[سورة فصلت: آية 44]:

{وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)} كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم فقيل: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت وقالوا {لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ} أي بينت ولخصت بلسان نفقهه {ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الهمزة همزة الإنكار، يعنى: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمى ورسول عربى، أو مرسل إليه عربى، وقرئ: {أعجمى} والأعجمى: الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أي جنس كان، والعجمي: منسوب إلى أمّة العجم. وفي قراءة الحسن: {أعجمى} بغير همزة الاستفهام على الإخبار بأن القرآن أعجمى، والمرسل أو المرسل إليه عربى. والمعنى: أنّ آيات اللّه على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتا، لأنّ القوم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم. ويجوز في قراءة الحسن: هلا فصلت آياته تفصيلا، فجعل بعضها بيانا للعجم، وبعضها بيانا للعرب. فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمّة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتابا أعجميا كتب إلى قوم من العرب يقول: كتاب أعجمى ومكتوب إليه عربى، وذلك لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض، ولا يوصل به ما يخل غرضا آخر. ألا تراك تقول- وقد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة: اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما هُوَ أي القرآن {هُدىً وَشِفاءٌ} إرشاد إلى الحق وشفاء لِما فِي الصُّدُورِ من الظن والشك. فإن قلت: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ} منقطع عن ذكر القرآن، فما وجه اتصاله به؟ قلت: لا يخلو إما أن يكون {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} في موضع الجر معطوفا على قوله تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا} على معنى قولك: هو للذين آمنوا هدى وشفاء، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، إلا أنّ فيه عطفا على عاملين وإن كان الأخفش يجيزه. وإمّا أن يكون مرفوعا على تقدير: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر. وقرئ: {وهو عليهم عم.} و{عمى} ، كقوله تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}.
{يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} يعنى: أنهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصيح به من مسافة شاطة لا يسمع من مثلها الصوت فلا يسمع النداء.

.[سورة فصلت: آية 45]:

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)}.
{فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فقال بعضهم: هو حق، وقال بعضهم: هو باطل. والكلمة السابقة: هي العدة بالقيامة، وأنّ الخصومات تفصل في ذلك اليوم، ولولا ذلك لقضى بينهم في الدنيا.
قال اللّه تعالى {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.

.[سورة فصلت: آية 46]:

{مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)}.
{فَلِنَفْسِهِ} فنفسه نفع {فَعَلَيْها} فنفسه ضرّ {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} فيعذب غير المسيء.
{والذين لا يؤمنون في آذانهم} وقر، على حذف المبتدإ. أو في آذانهم منه وقر اه. قال أحمد: أي وبتقدير الرابط يستغنى عن تقدير المبتدإ.

.[سورة فصلت: الآيات 41- 48]:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي إذا سئل عنها قيل: اللّه يعلم. أو لا يعلمها إلا اللّه. وقرئ: {من ثمرات من أكمامهن} والكم- بكسر الكاف وعاء الثمرة، كجف الطلعة، أي: وما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله: من الخداج والتمام، والذكورة والأنوثة، والحسن والقبح وغير ذلك {أَيْنَ شُرَكائِي} أضافهم إليه تعالى على زعمهم، وبيانه في قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وفيه تهكم وتقريع آذَنَّاكَ أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي ما منا أحد اليوم- وقد أبصرنا وسمعنا- يشهد بأنهم شركاؤك، أي: ما منا إلا من هو موحد لك: أو ما منا من أحد يشاهدهم، لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل: هو كلام الشركاء، أي: ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة. ومعنى ضلالهم عنهم على هذا التفسير:
أنهم لا ينفعونهم، فكأنهم ضلوا عنهم وَظَنُّوا وأيقنوا. والمحيص: المهرب. فإن قلت: {آذَنَّاكَ} إخبار بإيذان كان منهم، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ قلت: يجوز أن يعاد عليهم {أَيْنَ شُرَكائِي}؟ إعادة للتوبيخ، وإعادته في القرآن على سبيل الحكاية: دليل على إعادة المحكي.
ويجوز أن يكون المعنى: أنك علمت من قلوبنا وعقائدنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه. ويجوز أن يكون إنشاء للإيذان ولا يكون إخبارا بإيذان قد كان، كما تقول: أعلم الملك أنه كان من الأمر كيت وكيت.

.[سورة فصلت: الآيات 49- 50]:

{لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)}.
{مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ} من طلب السعة في المال والنعمة. وقرأ ابن مسعود: {من دعاء بالخير}.
{وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} أي الضيقة والفقر {فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ} بولغ فيه من طريقين: من طريق بناء فعول، ومن طريق التكرير والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، أي: يقطع الرجاء من فضل اللّه وروحه، وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال هذا لِي أي هذا حقي وصل إلىّ، لأنى استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال برّ. أو هذا لي لا يزول عنى، ونحوه قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ} ونحوه قوله تعالى: {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} يريد: وما أظنها تكون، فإن كانت على طريق التوهم إِنَّ لِي عند اللّه الحالة الحسنى من للكرامة والنعمة، قائسا أمر الاخرة على أمر الدنيا. وعن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا: ولئن رجعت إلى ربى إنّ لي عنده للحسنى. ويقول في الآخرة: يا ليتني كنت ترابا. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة. فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب. ولنبصرنهم عكس ما اعتقدوا فيها أنهم يستوجبون عليها كرامة وقربة عند اللّه {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُورًا} وذلك أنهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلبا للافتخار والاستكبار لا غير، وكانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى والصحة، وأنهم محقوقون بذلك.

.[سورة فصلت: آية 51]:

{وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)} هذا أيضا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه اللّه بنعمة أبطرته النعمة، وكأنه لم يلق بؤسا قط فنسي المنعم وأعرض عن شكره وَنَأى بِجانِبِهِ أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم.
وإن مسه الضرّ والفقر: أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع. وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام، ويستعار له الطول أيضا كما استعير الغلظ بشدّة العذاب. وقرئ: {ونأى بجانبه} بإمالة الألف وكسر النون للإتباع. وناء على القلب، كما قالوا: راء في رأى. فإن قلت: حقق لي معنى قوله تعالى: {وَنَأى بِجانِبِهِ} قلت: فيه وجهان: أن يوضع جانبه موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى: {عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله:
ونفيت عنه مقام الذئب

يريد: ونفيت عنه الذئب. ومنه: {ولمن خاف مقام ربه} ومنه قول الكتاب: حضرت فلان ومجلسه، وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز، يريدون نفسه وذاته، فكأنه قال: ونأى بنفسه، كقولهم في المتكبر: ذهب بنفسه، وذهبت به الخيلاء كل مذهب، وعصفت به الخيلاء، وأن يراد بجانبه: عطفه، ويكون عبارة عن الانحراف والازورار، كما قالوا: ثنى عطفه، وتولى بركنه.

.[سورة فصلت: آية 52]:

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)}.
{أَرَأَيْتُمْ} أخبرونى {إِنْ كانَ} القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يعنى أن ما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة حصلتم منها على اليقين وثلج الصدور، وإنما هو قبل النظر واتباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند اللّه وأن لا يكون من عنده، وأنتم لم تنظروا ولم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقا وقد كفرتم به، فأخبرونى من أضلّ منكم وأنتم أبعدتم الشوط في مشاقته ومناصبته ولعله حق فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله تعالى: {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} موضوع موضع منكم، بيانا لحالهم وصفتهم.